فصل: فصل في أن من أخلاق السلف مقت أنفسهم ومحاسبتها على الدقيق والجليل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في أن من أخلاق السلف مقت أنفسهم ومحاسبتها على الدقيق والجليل:

قال مطرف بدعائه في عرفة: اللهم لا تردهم لأجلي. وقال بكر بن عبد الله المزني: لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غفر لهم لولا أني كنت فيهم. وقال أيوب السحيتاني: إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل. وقالت امرأة لمالك بن دينار: يا مرائي، فقال: يا هذه وجدتي اسمي الذي أضله أهل البصرة. وقال: لو قيل ليخرج شر من في المسجد ما سبقني على الباب أحد.
وكان سفيان الثوري ما ينام إلا أول الليل ثم ينتفض فزعًا مرعوبًا ينادي النَّار النار شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات ثم يتوضأ ويقول على أثر وضوئه: اللهم إنك عالم بحاجتي غير معلم وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار.
ولما احتضر سفيان الثوري دخل عليه أبو الأشهب وحماد بن سلمة فقال له: يا أبا عبد الله أليس قد أمنت ممن كنت تخافه وتقدم على من ترجوه وهو أرحم الراحمين، فقال: يا أبا سلمة أيطمع لمثلي أن ينجو من النار، فقال: أي والله إني لأرجو ذلك.
وكان سفيان الثوري بهذه الأبيات كثيرًا ما يتمثل:
أَظَرِيفُ إِنَّ الْعَيْشَ كَدَّرَ صَفْوَهُ ** ذِكْرُ الْمَنِيَّةِ وَالْقُبُورِ الْهُوَّلِ

دُنْيًا تَدَاوَلَهَا الْعِبَادُ ذَمِيمَةً ** شِيبَتْ بِأَكْرَهَ مِنْ نَقِيعِ الْحَنْظَلِ

وَبَنَاتُ دَهْرِ لا تَزَالُ مُلِمَّةً ** وَلَهَا فَجَائِعُ مِثْلُ وَقْعِ الْجَنْدَل

وجاع مرة جوعًا شديدًا فمر بدار فيها عرس فدعته نفسه على أن يدخل فلم يطوعها ومضى إلى بيته وقدمت له بنته قرصًا فأكله وشرب ماء فتجشى ثم قال:
سَيَكْفِيكَ مِمَّا أُغْلِقَ الْبَابُ دُونَهُ ** وَظَنَّ بِهِ الأَقْوَامُ مِلْحٌ بِجُرْدُقِ

وَتَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فُرَاتٍ وَتَغْتَذِي ** تُعَارِضُ أَصْحَابَ الثَّرِيدِ الْمَلَبَّقِ

تَجَتَّنِي إِذَا مَا هُمْ تَجشَوْا كَأَنَّمَا ** ظَلَلْتَ بِأَنْوَاعِ الْخَبِيصِ الْمُفَتَّقِ

آخر:
إِذَا مَا أَصَبْنَا كُلَّ يَوْمٍ مُذَيْقَةً ** وَخَمْسَ تُمَيْرَاتٍ صِغَارِ كَوَانِزِ

فَنَحْنُ مُلُوكُ الأَرْضِ خَصْبًا وَنَعْمَةً ** وَنَحْنُ أُسُودُ الْغَابِ عِنْدَ الْهَزَائِزِ

وَكَمْ مُتَمَنَّ عَيْشَنَا لا يَنَالَهُ ** وَلَوْ نَالَهُ أَضْحَى بِهِ حَقَّ فَائِزِ

آخر:
خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ الطَّوَى وَأَعِفَّةٌ ** عَنْ شُبْهِةٍ لا يَعْرِفُونَ حَرَامَا

وقال يونس بن عبيد: إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسي منها واحدة. وقال محمد بن واسع: لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد أن يجلس إلي.
وذكر داود الطائي عند بعض الأمراء فاثنوا عليه فقال: لو يعلم الناس ما نحن عليه ما ذل لنا لسان بذكر خير أبدًا.
وقال أبو حفص: من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها في جميع الأحوال ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أوقاته كان مغرورًا ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها.
ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} الآية، قالت: يا بني هؤلاء في الجنة أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة والرزق وأما المقتصد فمن تبع أثره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لحق به وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم فجعلت نفسها معهم رضي الله عنها.
قَوْمٌ مَضَوْا كَانَتْ الدُّنْيَا بِهِمْ نُزَهًا ** وَالدَّهْرُ كَالْعِيدِ وَالأَوْقَاتُ أَوْقَاتُ

عَدْلٌ وَأَمْنٌ وَإِحْسَانٌ وَبَذْلُ نَدَى ** وَخَفْضُ عَيْشٍ نُقضِّيهِ وَأَوْقَاتُ

مَاتُوا وَعِشْنَا فَهُمْ عَاشُوا بِمَوْتِهِمْ ** وَنَحْنُ فِي صُوَرِ الأَحْيَاءِ أَمْوَاتُ

للهِ دَرُّ زَمَانٍ نَحْنُ فِيهِ فَقَدْ ** أَوْدَى بِنَا وَعَرَتْنَا فِيهِ نَكْبَاتُ

جُورٌ وَخَوْفٌ وَذُلٌّ مَا لَهُ أَمَدٌ ** وَعَيْشَةٌ كُلُّهَا هَمٌّ وَآفَاتُ

وَقَدْ بُلِينَا بِقَوْمٍ لا أَخْلاقَ لَهُمْ ** إِلَى مُدَارَاتِهِمْ تَدْعُو الضَّرُورَاتُ

مَا فِيهِمْ مِنْ كَرِيمٍ يُرْتَجَى لِنَدىً ** كَلا وَلا لَهُمْ ذِكْرٌ إِذَا مَاتُوا

لا الدِّينُ يُوجَدُ فِيهِمْ لا وَلا لَهُمُوا ** مِنَ الْمُرُوءَةِ مَا تَسْمُو بِهِ الذَّاتُ

واَلصَّبْرُ قَدْ عَزَّ وَالآمَالُ تُطْمِعُنَا ** وَالْعُمْرُ يَمْضِي فَتَارَاتٌ وَتَارَاتُ

وَالْمَوْتُ أَهْوَنُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فَقَدْ ** زَالَتْ مِنْ النَّاسِ وَاللهِ الْمُرُوآتُ

اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعاتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا لجميع المسلمين. اللهم اشف قلوبنا من أمراض المعاصي والآثام واملأها من خشيتك وأقبل بها إلى طاعتك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فصل:
ومن أخلاقهم رضي الله عنهم كثرة الحزن والهم كلما تذكروا الموت وسكراته وخوف سوء الخاتمة الذي من أسبابه استيلاء حب الدنيا على القلب وضعف الإيمان والانهماك في المعاصي.
لأنه متى ضعف الإيمان ضعف حب الله تعالى وقوي حب الدنيا حتى لا يبقى في القلب موضع لحب الله إلا من حيث حديث النفس ولا أثر له في كفها عن السيئات.
وذلك يورث الإكثار من المعاصي والاستمرار فيها حتى يظلم القلب وتراكم عليه ظلمات الذنوب فلا تزال تطفئ ما فيه من نور الإيمان على ضعفه حتى تصير طبعًا ورينا.
فإذا جاءت سكرات الموت ازداد ضعف حبه لله لشعوره بفراق الدنيا إذ هي المحبوب الغالب على القلب فيتألم باستشعار فراقها ويرى ذلك من الله فيختلج ضميره بإنكار ما قدر عليه من الموت وكراهيته من حيث أنه من الله فيخشى أن يفرط من لسانه أو يثور من قلبه شيء يسخط الله عليه.
والذي يفضي إلى مثل هذه الخاتمة غلبة حب الدنيا والركون إليها والفرح بأسبابها مع ضعف الإيمان الموجب لضعف حب الله تعالى أما من كان حب الله تعالى أغلب على قلبه من حب المال والدنيا فهو أبعد عن هذا الخطر العظيم فحب الدنيا رأس كل خطيئة وهو الداء العضال.
ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين متأثرين بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم لا تزن عندهم الدنيا شيئًا ولا يعبؤن بها وإذا حصل لهم شيء منها خرج فورًا ومن أخلاقهم القناعة وحسن الالتجاء إلى الله والثقة له والتوكل عليه في الدقيق والجليل قال بعضهم:
يَا مَنْ لَهُ الْفَضْلُ مَحْضًا فِي بَرِيَّتِهِ ** وَهُوَ الْمُؤَمَّلُ فِي الضَّرَاءِ وَالْبَاسِ

عَوَّدَتْنِي عَادَةٌ أَنْتَ الْكَفِيلُ بِهَا ** فَلا تَكِلْنِي إِلَى خَلْقٍ مِنْ النَّاسِ

وَلا تُذِلَّ لَهُمْ مِنْ بَعْدِ عِزَّتِهِ ** وَجْهِي الْمَصُونُ وَلا تَخْفِضْ لَهُمْ رَاسِي

وَابْعَثْ عَلَى يَدِ مَنْ تَرْضَاهُ مِنْ بَشَرٍٍ ** رِزْقِي وَصُنْهُوَ عَمَّنْ قَلْبُهُ قَاسِي

فَإِنَّ حَبْلَ رَجَائِي فِيكَ مُتَّصِل ** بِحُسْنِ صُنْعِكَ مَقْطُوعًا عَنْ النَّاسِ

آخر:
إِنَّ الْقَنَاعَةَ كَنْزٌ لَيْسَ بِالْفَانِي ** فَاغْنَمْ أَُخَيَّ هُدِيتَ عَيْشَهَا الْفَانِ

وَعِشْ قَنُوعًا بِلا حِرْصٍ وَلا طَمَعٍ ** تَعِشْ حَمِيدًا رَفِيعَ الْقَدْرِ وَالشَّانِ

لَيْسَ الْغَنِيُّ كَثِيرَ الْمَالِ يَخْزُنَهُ ** لِحَادِثِ الدَّهْرِ أَوْ لِلْوَارِثِ الشَّانِي

يُجَمِّعُ الْمَالَ مِنْ حِلٍّ وَمِنْ شُبَهٍ ** وَلَيْسَ يُنْفِقُ فِي بِرٍّ وَإِحْسَانٍ

يَشْقَى بِأَمْوَالِهِ قَبْلَ الْمَمَاتِ كَمَا ** يَشْقَى بِهَا بَعْدَه فِي عُمْرِهِ الثَّانِي

إِنَّ الْغَنِيَّ غَنِيُّ النَّفْسِ قَانِعُهَا ** مُوَفَّرُ الْحَظِّ مِنْ زُهْدٍ وَإِيمَانِ

بَرٌّ كَرِيمٌ سَخِيُّ النَّفْسِ يُنْفِقُ مَا ** حَوَتْ بَدَاهُ مِنَ الدُّنْيَا بِإِيقَانِ

مُنَوَّرُ الْقَلْبِ يَخْشَى اللهَ يَعْبُدُهُ ** وَيَتَّقِيهِ بِإِسْرَارِ وَإِعْلانِ

مُوَفَّقٌ رَاسِخٌ فِي الْعِلْمِ مُتَّبِعٌ ** إِثَرَ الرَّسُولِ بِإِخْلاصِ وَإِحْسَانِ

آخر:
إِنْ كُنْتَ تَرْجُو اللهَ فَاقْتَنِعْ بِهِ ** فَعِنْدَهُ الْفَضْلُ الْكَثِيرُ الْغَزِيرْ

مَنْ ذَا الَّذِي تَلْزَمُهُ فَاقَةٌ ** وَذُخْرُهُ اللهُ الْغَنِيُّ الْكَبِيرْ

.فصل في ذكر فوائد محاسبة النفس:

قال ابن القيم رحمه الله: من فوائد محاسبة النفس أنه يعرف بذلك حق الله تعالى، ومن لم يعرف حق الله تعالى عليه فإن عبادته لا تكاد تجدي عليه، وهي قليلة المنفعة جدًا.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج حدثنا جرير بن حازم عن وهب قال: بلغني أن نبي الله موسى عليه السلام مر برجل يدعو ويتضرع فقال:
يا رب ارحمه، فإني قد رحمته، فأوحى الله تعالى إليه: «لو دعاني حتى تنقطع قواه ما استجبت له حتى ينظر في حقي عليه».
فمن أنفع ما للقلب النظر في حق الله على العباد، فإن ذلك يورثه مقت نفسه، والإزراء عليها، ويخلصه من العجب ورؤية العمل ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه، واليأس من نفسه.
وإن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته، فإن من حقه أن يطاع ولا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.
فمن نظر في هذا الحق الذي لربه عليه، علم علْم اليقين أنه غير مؤد له كما ينبغي وأنه لا يسعه إلا العفو ومغفرة، وأن إن أحيل على عمله هلك.
فهذا محل أهل المعرفة بالله تعالى وبنفوسهم، وهذا الذي أيأسهم من أنفسهم وعلق رجائهم كله بعفو الله ورحمته.
وإذا تأملت حال أكثر الناس وجدتهم بضد ذلك، ينظرون في حقهم على الله ولا ينظرون في حق الله عليهم.
ومن هنا انقطعوا عن الله وحجبت قلوبهم عن معرفته والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره، وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه.
مَا أَنْعَمَ الْعِيشَةُ لَوْ أَنَّ الْفَتَى ** يُلْهَمُ تَسْبِيحًا لِخَلاقِ الْوَرَى

وَقَدْ تَحَلَّى بِالسَّخَاءِ وَالتُّقَى ** لِيَقْتَدِي مِنْ قَصْدُهُ سُبْلَ الْهُدَى

فمحاسبة النفس هو نظر العبد في حق الله أولاً، ثم نظره هل قام به كما ينبغي ثانيًا.
وأفضل الفكر الفكرُ في ذلك، فإنه يسير القلب إلى الله ويطرحه بين يديه ذليلاً خاضعًا منكسرًا كسرًا فيه جبره، ومفتقرًا فقرًا فيه غناه، وذليلاً ذلاً فيه عزه، ولو عمل الأعمال ما عساه أن يعمل فإنه إذا فاته هذا فالذي فاته من البر أفضل من الذي أتى، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فصل:
وقال رحمة الله تعالى: فائدة قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه في الذوات والأعيان، فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات.
فإذا كان القلب ممتلئًا بالباطل باعتقاده ومحبته لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضوع كما أن اللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه إلا إذا فرغ لسانه من النطق بالباطل.
وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة لم يمكن شغلها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها. فكذلك المشغول بمحبة غير الله وإرادته والشوق إليه والأنس به لا يمكن شغله بمحبة الله وإرادته وحبه والشوق إلى لقائه إلا بتفريغه بغيره.
ولا حركة اللسان بذكره والجوارح بخدمته إلا إذا فرغها من ذكر غيره وخدمته. فإذا امتلأ القلب بالشغل بالمخلوق والعلوم التي لا تنفع لم يبق فيها موضوع للشغل بالله ومعرفة أسمائه وصفاته، وأحكامه.
وسر ذلك في إصغاء القلب كإصغاء الأذن، فإذا أصغى إلى غير حديث الله لم يبق فيه إصغاء وفهم لحديثه، كما إذا مال إلى غير محبة الله لم يبق فيه ميل إلى محبته. فإذا نطق القلب بغير ذكره لم يبق فيه محل للنطق بذكره كاللسان.
ولهذا في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرًا». رواه مسلم وغيره.
فبين أن الجوف يمتلئ بالشعر، فكذلك يمتلئ بالشبه والشكوك والخيالات، والتقديرات التي لا وجود لها، والعلوم التي لا تنفع، والمفاكهات والمضحكات والحكايات ونحوها.
وإذا امتلأ القلب بذلك جاءته حقائق القرآن والعلم الذي به كماله وسعادته فلم تجد فيه فراغًا لها ولا قبولاً وجاوزته إلى محل سواه.
كما إذا بذلت النصيحة لقلب ملآن من ضدها لا منفذ لها فيه فإنه لا يقبلها وتلج فيه لكن تمر مجتازة لا مستوطنة.
وقال بعضهم: الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، ولقي حكيم حكيمًا فقال له: لا رأك الله عندما نهاك ولا فقدك حيث أمرك. وقال بشر بن الحارث: بي داء ما لم أعالج نفسي لا أتفرغ لغيري فإذا عالجت نفسي تفرغت لغيري.
وقال: أنا أكره الموت ولا يكره إلا مريب وسأله بعضهم موعظة فقال: ما تقول فيمن القبر مسكنه والصراط جوازه والقيامة موقفه والله مسائله فلا يعلم إلى جنة يصير فينهى أو إلى نار فيعزى فوا طول حزناه وأعظم مصيبتاه زاد البكاء فلا عزاء واشتد الخوف فلا أمن.
تَعَافُ الْقَذَا فِي الْمَاءِ لا تَسْتَطِيعُهُ ** وَتَكْرَعُ فِي حَوْضِ الذُّنُوبِ فَتَشْرَبُ

وَتُؤْثِرُ فِي أَكْلِ الطَّعَامِ أَلَذَّهُ ** وَلا تَذْكُرُ الْمُخْتَارَ مِنْ أَيْنَ تَكْسَبُ

وَتَرْقُدُ يَا مِسْكِينَ فَوْقَ نَمَارِقٍ ** وَفِي حَشْوِهَا نَارٌ عَلَيْكَ تَلَهَّبُ

فَحَتَّى مَتَى لا تَسْتَفِيقُ جَهَالَةٍ ** وَأَنْتَ ابنُ سَبْعِينٍ بِدِينِكَ تَلْعَبُ

ولقد كان بعض الصحابة يؤدي ما عليه من العبادة ولم يكن يكثر من الاستغفار في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثم لما لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى أكثر الصحابي من الاستغفار، فسأله الصحابة في ذلك فقال: لقد كنت آمنًا من العذاب في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فلما توفي لم يبق إلا الأمان الثاني وهو الاستغفار.
يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.
وقال عامر بن عبد الله بن قيس: لو أن الدنيا كانت لي بحذافيرها ثم أمرني الله تعالى بإخراجها كلها لأخرجتها بطيب نفس، وكلن يقول: كم من شيء كنت أحسنه أود الآن إني لا أحسنه وما يغني ما أحسن من الخير إذا لم أعمل به.
وكان يقول: من جهل العبد أن يخاف على الناس من ذنوبهم ويأمن هو على ذنوب نفسه.
ويقول بعضهم: طوبى لمن كان صمته تفكرًا وكلامه ذكرًا ومشيه تدبرًا وكان سفيان الثوري يقول: إذا فسد العلماء فمن بقي في الدنيا يصلحهم ثم ينشد:
يَا مَعْشَرُ الْعُلَمَاءِ يَا مِلْحَ الْبَلَدْ ** مَا يُصْلِحُ الْمِلْحَ إِذَا الْمِلْحَ فَسَدْ

آخر:
وَرَاعِ الشَّاةَ يَحْمِي الذِّئْبَ عَنْهَا ** فَكَيْفَ إِذْ الذِّئَابُ لَهَا رُعَاةُ

بِالْمِلْحِ يَصْلَحُ مَا يَخْشَى تَغَيُّرُهُ ** فَكَيْفَ بِالْمِلْحِ إِنْ حَلَّتْ بِهِ الْغِيَرُ

والله أعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.